موقف المسلمون عامة والدعاة خاصة
تجاه الشبهات الفكرية في ضوء قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم
{الحلال بين
والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس}
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على
خاتم النبيين والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم
الدين.
أما بعد:-
فَعَنْ
أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ:(إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ
الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ
كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس، ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ
لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ
كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ
لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً. أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي
الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ
الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ).(1)
ففي ضوء هذا الحديث نتعرض لموقف
المسلمين تجاه الشبهات وموقف الدعاة تجاهها وذلك في ثلاثة مسائل:-
المسألة الأولى:– مفهوم الشبهات:-
قال الإمام النووي في شرحه لهذا
الحديث:- وأما الشبهات فهي كل ما تتنازعه الأدلة من الكتاب والسنة
وتتجاذبه المعاني فالإمساك عنه ورع.
ومن هنا نتحدث عن موقف المسلمين تجاه الشبهات
الفكرية.
المسألة الثانية:– موقف المسلمون
عامة تجاه الشبهات الفكرية:-
أ – الإعراض عن مواضع الشبهات
واجتنابها وعدم مجالسة ناشريها:- وذلك لقول الله تعالى في سورة الأنعام:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)}.
وقوله تعالى في سورة النساء:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ
بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)}.
فيجب على كل مسلم أن يجنب نفسه
مواضع الشبهات ولا يتعرض لها فإن تعرض لها وهي الثانية فعليه:-
ب – تفويض الأمر إلى الله فيما لا
يعلم العبد حقيقته:- بمعنى أن لا يفتح على نفسه باب الشك أي:- لا يسأل عن ما عرض له من شبهات وذلك امتثالا
لقول الله تعالى في سورة النساء:{ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}.
ولقول الله تعالى في سورة آل
عمران:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ
الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
(7)}.
*ومما قاله الامام بن كثير في
تفسير هذه الآية بتصرف كبير:-
يخبر تعالى أن
في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها
على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو
بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد
اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي
أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
} أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }
أي: تحتمل
دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من
حيث المراد.
قال
الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا أحمد
بن عمرو، أخبرنا هشام بن عمار، أخبرنا ابن أبي حاتم عن أبيه، عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن ابن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه
منه فآمنوا به" .(2)
انتهى بتصرف كبير.
*ولقول النبي محمد صلى الله عليه
وسلم الذي رواه عنه:- أَبِيْ ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيِّ
جُرثُومِ بنِ نَاشِرٍ رضي الله عنه عَن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا
تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا
تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ
فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا).(3)
فقد قال الإمام النووي في شرحه
لهذا الحديث:{ وأما النهي عن
البحث عما سكت الله عنه فهو موافق لقوله صلى الله عليه وسلم: " ذروني ما تركتكم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم
واختلافهم على أنبيائهم "
قال
بعض العلماء: كانت بنو اسرائيل يسألون فيجابون ويعطون ماطلبوا حتى كان
ذلك فتنة لهم وأدى ذلك إلى هلاكهم.
وكان الصحابة
رضي الله عنهم قد فهموا ذلك وكفوا عن السؤال إلا فيما لا بد منه وكان يعجبهم أن
يجيء الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون ويعون.}انتهي.(4)
جـ:- أن يذهب لداعية ملم بالشريعة
المحمدية:- فإن زاد شكه وأراد أن يستثبت فعليه أن يذهب إلى أهل الاختصاص من العلماء
ويسألهم عما عرض له وهنا يظهر موقف الداعية تجاه الشبهات الفكرية.
المسألة الثالثة:- موقف الداعية
تجاه الشبهات الفكرية:-
وأما عن الداعية فإنه في مواجهته
للشبهات على حالين:-
أولهما:- أن الشبهات التي يريد الداعية أن يتعرض لها
غير معلومة للناس ومغمورة ومضمورة ومحسورة في أهل الاختصاص فإنه عليه حينئذ ألا
يتعرض لهذه الشبه حتى لا يفسد على الناس دينهم.
وإن كان ولا بد أن يتعرض لهذه الشبه حتى يضحدها
فإنما يكون ذلك عن طريق التعرض للشبهة من طريق غير مباشر كأن يذكرها للناس دون أن
يعلمهم أن هذه شبهة.
ويكون ذلك عن طريق طرح الردود على هذه الشبه
كأنها داخلة في عناصر متعلقة في صلب الموضوع الذي يتناول عرضه على الناس.
ويدخل ذلك في قول النبي صلى الله
عليه وسلم:{لاضرر ولا
ضرار}.
فإن الداعية الذي يطرح الشبهات الفكرية
على عوام الناس وينشرها بينهم ربما يكون رده عليها غير كاف ولا واف لضحدها وحينئذ
يكون قد قام بدور طارح الشبهة الأصلي دون أن يتعب طارح الشبهة نفسه في شرح شبهته
وإقناع عوام الناس بها فيكون الداعية حينئذ أفسد من حيث أراد الإصلاح وأما إن كان
الداعية وهذه هي الحالة الثانية:-
الحالة الثانية:- في جمع من العلماء المتخصصين أو شارحا لطلاب
العلم المخلصين فإنه بتعرضه للشبهة وتحضده لها ضحدا كافيا شافيا وافيا يزيدهم من
علمه الذي علمه الله إياه.
ويكون قد سد على أعداء الإسلام المغرضين
أبوابا عظيمة قد يتسللون منها إذ زرع العالم في طلاب علمه الرد الوافي على هذه
الشبهات.
فيكون بذلك صنع أسلحة دفاع قوية مسلطة في وجه
من يحاول هدم الإسلام بطرح هذه الشبهات على عوام الناس بضحدهم لها وردهم عليها.
هذا والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم.
وكتبه الفقير إلى عفو ربه: محمود محمد إبراهيم الصياد.
الداعية بالجمعية الشرعية: بالمحلة
الكبرى.
والسلام عليكم وحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) {رواه البخاري ومسلم}.
(2) {رواه ابن الضريس في "فضائل القرآن"، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/1/197) وإسناده
حسن}.
(3) {حديث حسن رواه الدارقطني وغيره}.
(4) {شرح الأربعين
النووية: للنووي}.
ليست هناك تعليقات: