بحث قصة الغرانيق وأثرها على عصمة خاتم الأنبياء والمرسلين


مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، قيما لينذر بئسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثني وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ، سبحانه رب السماوات ورب الأراضين ، تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، خلق الخلق فأحصاهم عددا ، وقسم الأرزاق فلم ينس أحدا ، إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا ، لقد أحصاهم وعدهم عدا ، وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ،وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ، سبحانه رفع السماء بلا عمد وبسط الأرض على ماء جمد ، هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم.
وأشهد ان محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وهو شفيع الأمة يوم الدين ، فاللهم صلي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
[آل عمران:102]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا}
{سورة النساء:1}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}
{سورة الأحزاب:70-71}
إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة في الدين بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:-
قال الله تبارك وتعالى في سورة الحج:{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)}
قيل: إن السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان ألقي على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنزل الله عليه من القرآن ما لم ينزله الله عليه، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمَّ به،فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات.
*ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس قالا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا بلغ:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين: تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهنّ لترجى، فتكلم بها. ثم مضى فقرأ السورة كلها. فسجد في آخر السورة، وسجد القوم جميعا معه، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته فسجد عليه، وكان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود. فرضوا بما تكلم به وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت، وهو الذي يخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيبا، فنحن معك، قالا فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه السلام، فعرض عليه السورة; فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افْتَرَيْتُ عَلى الله، وَقُلْتُ عَلى الله ما لَمْ يَقُلْ، فأوحى الله إليه:( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ) ... إلى قوله:( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ). فما زال مغموما مهموما حتى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). قال: فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان.
*حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
تولي قَومه عنه، وشقّ عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من عند الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب به بينه وبين قومه. وكان يسرّه، مع حبه وحرصه عليهم، أن يلين له بعض ما غلظ عليه من أمرهم، حين حدّث بذلك نفسه، وتمنى وأحبه، فأنزل الله:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) فلما انتهى إلى قول الله:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدّث به نفسه ويتمنى أن يأتي به قومه، تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتضى، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا وسرّهم، وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل؛ فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم تصديقا لما جاء به واتباعا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين، من قريش وغيرهم لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخا كبيرا فلم يستطع، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرّق الناس من المسجد، وخرجت قريش وقد سرّهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر، وقد زعم فيما يتلو أنها الغرانيق العلى، وأن شفاعتهنّ ترتضى، وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أسلمت قريش. فنهضت منهم رجال، وتخلَّف آخرون. وأتى جبرائيل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم يُقل لك، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وخاف من الله خوفا كبيرا فأنزل الله تبارك وتعالى عليه(وكانَ بِهِ رَحِيما) يعزّيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يكن قبله رسول ولا نبيّ تمنى كما تمنى ولا حبّ كما أحبّ إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته، أي فأنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... الآية، فأذهب الله عن نبيه الحزن، وأمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم، أنها الغرانيق العلى، وأن شفاعتهنّ ترتضى.
يقول الله حين ذكر اللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى، إلى قوله:( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) ، أي فكيف تمنع شفاعة آلهتكم عنده؛ فلما جاءه من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما كان من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره، وكان ذلك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسوله قد وقعا في فم كل مشرك، فازدادوا شرّا إلى ما كانوا عليه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن أبي العالية، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما جلساؤك عبد بني فلان ومولى بني فلان، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك، فإنه يأتيك أشراف العرب فإذا رأوا جلساءك أشراف قومك كان أرغب لهم فيك، قال: فألقى الشيطان في أمنيته، فنزلت هذه الآية:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال: فأجرى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وشفاعتهن ترجى، مثلهن لا يُنسى؛ قال: فسجد النبيّ حين قرأها، وسجد معه المسلمون والمشركون؛ فلما علم الذي أجرى على لسانه، كبر ذلك عليه، فأنزل الله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله:( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قال: قالت قريش: يا محمد إنما يجالسك الفقراء والمساكين وضعفاء الناس، فلو ذكرت آلهتنا بخير لجالسناك فإن الناس يأتونك من الآفاق، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم; فلما انتهى على هذه الآية( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) فألقى الشيطان على لسانه: وهي الغرانقة العلى، وشفاعتهن ترتجى؛ فلما فرغ منها سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم و والمسلمون والمشركون، إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص، أخذ كفا من تراب وسجد عليه; وقال: قد أن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير حتى بلغ الذين بالحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين أن قريشا قد أسلمت، فاشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ألقى الشيطان على لسانه، فأنزل الله( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى آخر الآية.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبير، قال: لما نزلت هذه الآية:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المشركون: أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله:( عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ).
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنى عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير قال: لما نزلت:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ) ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلى قوله:( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) وذلك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يصلي، إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها; فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يتلوها وهو يقول:( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) ألقى الشيطان: إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى. فجعل يتلوها، فنزل جبرائيل عليه السلام فنسخها، ثم قال له:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) إلى قوله:( وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي )... الآية; أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات والعزّى ويكثر ترديدها. فسمع أهل مكة نبيّ الله يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، ودنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبيّ صلى الله عليه وسلم: تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى، فقرأها النبيّ صلى الله عليه وسلم كذلك، فأنزل الله عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) إِلَى (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ).
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أنه سئل عن قوله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ )... الآية، قال ابن شهاب: ثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ) ، فلما بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى ) قال: إن شفاعتهن ترتجى. وسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض، فسلموا عليه، وفرحوا بذلك، فقال لهم: إنما ذلك من الشيطان. فأنزل الله:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ )... حتى بلغ:( فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ).
{ تفسير الطبري}
تلك هي القصة كاملة ورغم وضوح بطلانها وظهور ضعفها إلا أنه كان من عظيم خطرها أنه قد إنخدع بها بعض المفسرين من ذلك الإمام الزمخشري إذ قال في تفسيره المعروف ب:{الكشاف}:- والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أعرض عنه قوم وشاقوه ، وخالفه عشيرته ، ولم يشايعوه على ما جاء به تمنى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم ألا ينزل عليه ما ينفرهم ، لعله يتخذ ذلك طريقا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم ، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة : والنجم ، وهو من نادي قومه ، وذلك التمني في نفسه ، فأخذ يقرؤها ، فلما بلغ قوله : ومناة الثالثة الأخرى ، ألقى الشيطان في أمنيته : التي تمناها ، أي : وسوس إليه بما شيعها به ، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى ، وروي : الغرانقة ، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه ، وقيل : نبهه جبريل -عليه السلام- أو تكلم الشيطان بذلك  فأسمعه الناس ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم ، وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء ، زاد المنافقون به شكا وظلمة ، والمؤمنون نورا وإيقانا ، والمعنى : أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم ما ألقى في أمنيتك ، إرادة امتحان من حولهم ، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ؛ ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين ، وقيل : "تمنى " : قرأ ، وأنشد [من الطويل ] :
تمنى كتاب الله أول ليلة****** تمني داود الزبور على رسل
وأمنيته : قراءته ، وقيل : تلك الغرانيق : إشارة إلى الملائكة ، أي : هم الشفعاء لا الأصنام ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي : يذهب به ويبطله ، ثم يحكم الله آياته أي : يثبتها .
انتهى {الكشاف}
والقصة باطلة من وجهين:-
أولها:- بطلانها من جهة السند.
ثانيها:- بطلانها من جهة المتن.
بطلانها من جهة السند
فأما بطلانها من جهة السند فقد جاء في الشفاء:- يكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل ،   وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب  المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، والمرفوع فيه حديث شعبة : عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال فيما أحسب ـ الشك في الحديث ـ أن النبي كان بمكة ... وذكر القصة.
-قال أبو بكر البزار : هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا. و فيه من الضعف ما نبَّه عليه مع وقوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ، ولا حقيقة معه.
وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشارإليه البزار : رحمه الله  
والذي منه في الصحيح أن النبي  قرأ : والنجم ـ وهو بمكة ، فسجد معه المسلمون والمشركون و الجن والإنس .
{الشفاء}بتصرف.
بطلان القصة من ناحية المتن
وأما بطلانها من ناحية المتن فمن وجوه:-
أولها:- لمخالفتها لكتاب الله تعالى:- إذ أنها تنص على أن للشيطان سلطة على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ينفي ذلك في أكثر من آية من ذلك:- قول الله تعالى:-{إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من إتبعك من الغاوين}{الحجر}
وقوله تعالى في سورة النحل:{إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون – إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون}.
وقال في سورة ص:{قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين – إلا عبادك منهم المخلصين}.
ثانيها:- بطلان القصة لاضطرابها واختلاف ألفاظها جدا:- وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء  التفسير ، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه في الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها و قد أصابته سنة ، وآخر يقول : بل حدث نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه ، وإن النبي صلى الله عليه و سلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، و آخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي  قرأها ، فلما بلغ النبي  ذلك قال : والله ما هكذا نزلت ـ إلى غير ذلك من اختلاف الرواة .
انتهى من {الشفاء}
أما عبارة الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ، فقد إختلف لفظها إختلافا واضحا ،فهناك:{تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى}و:{تلك الغرانيق العلى ،وإن شفاعتهن ترتضى}و:{إن شفاعتها لترتجى ،وإنها لمع الغرانيق العلا}و{وإنهن الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى}
{نصب المجانيق}
ثالثها:- بطلان القصة لغة وأسلوبا:- نبه الشيخ محمد عبده إلى وجه قوي لبطلان تلك القصة من ناحية اللغة العربية فقال:{إن وصف العرب لآلهتهم بالغرنيق لم يرد لا في نظمهم ولا في خطبهم ،ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم إلا ماجاء في معجم ياقوت من غير سند ولا معروف بطريق صحيح والذي تعرفه اللغة أن الغرنوق والغيرنوق والغرنيق والغيرنق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل ويطلق على غير ذلك ولا شيء من معانيه اللغوية يلائم معنى الإلهية والأصنام حتى يطلق عليها في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان.
رابعها:- بطلان القصة من ناحية التاريخ:- ذكر الأستاذ /صالح الشامي جانبين مهمين بهما أبطل أن يكون سجود المشركين سببا لعودة المهاجرين للحبشة قال عن الأول:- إن آيات سورة النجم تناولت جانبا من الحديث عن الإسراء والمعراج ومعنى ذلك أن سورة النجم نزلت بعد حادثة الإسراء وحادثة الإسراء كانت قبل الهجرة للمدينة بثلاث سنين فهل يمكن أن تكون سورة النجم سببا لعودة المهاجرين وهي لم تنزل إلا بعد عودتهم إلى مكة بما لا يقل عن خمس سنين.
والثاني:- ويضيف أ/ الشامي معلقا على حديث البخاري في شأن سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:{إن الحديث نص صريح بحضور عبد الله بن مسعود حادثة السجود ومشاركته فيها0 فهو راوي الحديث وقد أكد حضوره برؤية ذلك الرجل الذي لم يسجد واكتفى بأخذه كفا من حصى والسجود عليه وحضوره في مكة في هذا الوقت يعني أنه قد عاد من الحبشة مع من عاد من أصحاب الهجرة الثانية ،وإذن فحادثة السجود وقعت بعد عودة المهاجرين وهي بالتالي لا تصلح أن تكون سببا لعودتهم}
أضواء على دراسة السيرة.أ/صالح الشامي.
وأقرب المعاني إلى الصواب في تفسير هذه الآية ما قاله الإمام الألوسي في تفسيره المسمى ب:{روح المعاني}:- والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى : {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام : 121] وقال سبحانه : {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا} [الأنعام : 112]..... فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلى الله عليه وسلم لرده أو بإنزال ما يرده ثم يحكم الله آياته أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه ، ( وثم ) للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلى رتبة من النسخ ، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي ، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات إحكام آياته تعالى الباهرة . ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار الشيطان والله عليم مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه حكيم في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها ، والإظهار ها هنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي.
{روح المعاني بتصرف}.
هذا ما كان من أمر قصة الغرانيق وخطرها على عصمة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
بقلم:- محمود محمد إبراهيم الصياد.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هناك تعليق واحد:

  1. ماشاء الله تبارك الله جزاك الله خيرا ورضي الله عنك أخي الغالي وبارك الله فيك ووفقك فيما بعد إن شاء الله

    ردحذف

كن مدون